وصلت إلى المملكة العربية السعودية بدعوة كريمة من صديق، كان قد تكفل بإجراءات التأشيرة، ولم يكن علي سوى شراء التذكرة للسفر إلى بلد كنت قد كونت فيه صداقات على مر السنين، علاقات أتاحت لي فرصة المساهمة في تنفيذ مشاريع ومبادرات لجهات كبيرة هناك. رغم كل تلك الروابط، لم تتح لي الفرصة لزيارة المملكة من قبل، وها قد جاءت اللحظة التي طال انتظارها.

البداية كانت من مطار الدمام، كنت أتوقع إجراءات طويلة ومعقدة، كما هو الحال في معظم المطارات التي زرتها من قبل. لكن المفاجأة كانت في سهولة الإجراءات هنا. كل شيء كان إلكترونيا، سريعا وسلسا. لا طوابير طويلة، ولا تفتيش. كان الأمر أشبه بتجربة اجتماعية جعلتني أشعر على الفور أن السعودية بلد متقدم.

خرجت من المطار، وأخذت سيارة أجرة أوصلتني إلى فندق كنت قد حجزت فيه مسبقا، إستقبلني الموظف بابتسامة عريضة، وبشكل مفاجئ، قرر أن يقدم لي خصما على سعر الغرفة قائلا: “هذا خصم ترحيبي للضيوف الجدد”. شكرتُه بحرارة، متلعثما بلكنة عربية بدت غير مألوفة له.

في الصباح، كان الإفطار متنوعا، الأطباق لذيذة وغنية بالنكهات، البيض أبيض اللون هنا، والخبز ساخن وطازج، أفطرت، تركت أغراضي لديهم وخرجت لأقوم بجولة في المدينة، وبعد ساعات، عدت للفندق لأسجل الخروج، إذ تنتظرني رحلة طويلة إلى الرياض.

اخترت القطار بدافع الفضول وحب التجربة، وصلت المحطة ورحت أتأمل مرافقها الحديثة، لم أكن أدرك أن حركاتي الفضولية ستلفت انتباه حراس الأمن. كنت أنظر إلى كل شيء بدهشة، ربما لأنني لأول مرة أشعر بوقع مدينة جديدة، ببيئة مختلفة ونظام يبدو منظما إلى حد الكمال.

رأيت أحد الحراس يقترب مني بخطوات حذرة، وعندما وصل، قال بنبرة حادة ممزوجة بالشك: “لماذا تنظر بهذه الريبة والاستغراب؟” طلب مني جواز السفر ليتحقق من هويتي. وبعد أن أنهى التحقق، تغيرت لهجته تماما، ورحب بي بحرارة، إستفسر عن سبب نظراتي المريبة. فأجبت بابتسامة متوترة: “إنها أول زيارة لي للسعودية، والفضول من حركني لأتفحص الناس والمرافق هنا”.

ضحك الحارس وقال: “أهلا بك في السعودية، لا تقلق، نحن هنا لضمان راحتك وأمانك”، كانت تلك الكلمات كفيلة بأن تزيل عني كل العناء والتوتر. شعرت أنني بين أناس يقدرون الضيف ويحترمونه. لاحقا وعندما حكيت لأصدقائي السعوديين عن الموقف، انفجروا ضاحكين: “يا غريب، كن أديب”. كان الناس في الدمام ودودين بشكل يفوق التوقعات.

إنطلقت الرحلة، جلست في مقعدي أتأمل المناظر الممتدة على طول الطريق، الرمال بدت وكأنها بحرٌ مترامي الأطراف، تتخللها بين الحين والآخر بعض الشجيرات الصغيرة التي أصرت على أن تقاوم قساوة الطبيعة. شساعة البلاد كانت مذهلة.

داخل القطار، كان الجو مريحا. المقاعد مرتبة، والخدمة متقنة، الإعلانات الصوتية واضحة، والابتسامة تزين وجوه العاملين، كل شيء يعكس إحساسا بالاهتمام. بعد ساعات طويلة، بدأت ملامح الرياض تتضح من بعيد، وعند سماع إعلان الوصول. جمعت أغراضي على عجل ونزلت بخطوات سريعة، آملا أن تكون المحطة نهاية لرحلة طويلة، وبداية هادئة لمساء جديد، لكن الواقع كان يحمل مفاجأة أخرى.

المشهد أمامي كان مختلفا تماما، شوارع مزدحمة، أضواء لامعة، أصوات السيارات تملأ المكان والناس تسير في كل اتجاه وكأن الجميع في سباق مع الزمن. وقفت لوهلة ألتقط أنفاسي محاولا أن أستوعب هذا التغير المفاجئ. حاولت أن أظل هادئا بينما كنت أبحث عن سيارة أجرة تقلني إلى وجهتي. توقف أحد السائقين وبابتسامة ودودة سألني: “وين إن شاء الله؟” أجبته أنني أود الذهاب إلى الشارع الكبير الذي يضم برج المملكة، اعتقادا مني أنه يمثل وسط المدينة أو ما يعرف بـ “الداون تاون”.

حمل حقيبتي ووضعها في السيارة، ثم انطلقنا مسرعين، كانت ناطحات السحاب تلوح في الأفق. برج المملكة وبرج الفيصلية، بأضوائهما الباهرة، كانا أشبه بمنارة ترشد التائهين إلى قلب المدينة. الطرق الواسعة والمباني الحديثة عكست مظهرا طاغيا أيضا، ذكرتني بدبي، حيث كل شيء يصرخ بالحداثة والرأسمالية.

نزلت في الشارع الواسع وبدأت أتمشى بحثا عن فندق. كنت أتخيل أن إقامتي ستكون في أحد تلك الأبراج الشاهقة التي تزين الأفق، لكن سرعان ما أدركت أن الواقع سيأخذني في اتجاه مختلف تماما.

أسعار الفنادق كانت فاحشة، حتى الخيارات التي يمكن وصفها بالمتواضعة كانت تتجاوز ميزانيتي بكثير. قضيت ساعات أبحث عن فندق يناسب إمكانياتي، حل الظلام واضطررت في النهاية أن أغادر المنطقة وأبحث في مكان آخر. المدينة التي كنت أسمع عنها وأتخيلها أصبحت أمامي الآن، وعلى عكس مدينتي الصغيرة، حيث كل شيء في متناول اليد والتنقل لا يتطلب سوى خطوات بسيطة، كان التنقل بين شوارع الرياض مرهقا للغاية.

فتحت تطبيقات Booking و Airbnb على هاتفي، الخيارات كانت قليلة وأسعارها باهظة إلى حد لا يصدق. للحظة، إعتقدت أن المشكلة في الهاتف نفسه، أو ربما أن هذه التطبيقات تحجب عني الخيارات المناسبة لأنني لا أستخدم شريحة سعودية، إذ ورغم معرفتي الطويلة بالبلاد، وأصدقائي، من صنعوا سنواتي الأجمل، كانوا كلهم سعوديون، في بلاد شعرت دائما أنني أعرفها جيدا، إلا أنني وقفت مرتبكا، أتساءل لما أشعر بالغربة الآن؟ أجر حقيبة ثقيلة منذ ساعات، محاولا العثور على ملامح مألوفة، السيارات تعبر خلفي دون أن تلاحظ وجودي، ولا يوجد عنوان واضح أتجه إليه.

شعرت بالخجل من الاتصال بالأصدقاء لطلب المساعدة، خاصة أن هذا اليوم كان يصادف يوم جمعة. انتهى بي الأمر إلى فندق صغير بعيد عن المكان الذي كنت أحلم به، دفعت ما يعادل 320 دولارا مقابل ثلاث ليال. كان المبلغ باهظا بالنسبة لي،لكنني استطعت أخيرا أن أتنفس بعمق، ومن شدة التعب نمت مباشرة، هربا من هذه البداية التي لا تبشر بالخير.

في صباح اليوم التالي، خرجت لأكتشف المدينة بنفسي، الشوارع واسعة ونظيفة، تُظهر اهتماما استثنائيا بالتنظيم والتطوير. الكثير من ناطحات السحاب، والتي تعكس طموح الرياض لتكون في مصاف المدن العالمية.

فكرت مجددا في الاتصال بالأصدقاء، لكنني قررت أن أؤجل ذلك ليوم الأحد، حيث تكون وتيرة الحياة أهدأ بعد نهاية عطلة الأسبوع. قضيت اليوم أتجول في مول قريب، ثم عدت للنوم بعدما بدأ المال ينفذ بسرعة.

منذ لحظة وصولي، شعرت أن تجربة المستخدم في الرياض تختلف تماما عن دبي التي عشت فيها سابقا. فهناك، كل شيء مخطط له منذ لحظة الوصول إلى المطار: سيارات الأجرة، الفنادق، المطاعم، أما في الرياض، فأنت من يصنع تجربة المستخدم الخاصة بك.

في الغد، زرت مقر الشركة التي أعمل بها، كان اللقاء مع الزملاء مثيرا للمشاعر، على الأقل من جهتي، رأيت وجوها اعتدت أن أراها فقط على شاشات سلاك Slack، البعض كان كما تخيلته تماما، بينما الآخرون كانوا أكثر دفئا وطيبة مما توقعت. شعرت وكأنني التقيت بأصدقاء قدامى أعرفهم، وهو ما جعلني أشعر براحة مؤقتة.

قبل أن أصل للمكتب، كنت بحثت عن متجر مغربي لأشتري بعض الحلوى، كل شيء تم عبر رسالة واتساب، انتظرت لساعة كاملة، مع أن المسافة بدت قريبة في الخريطة، تواريت خلف مقر الشركة كي لا يراني أحد، ها هي الحلوى في يدي، وأنا أمسكها لأسدد: 180 ريال؟؟؟؟ صدمت من الفاتورة، أخبرت البائع بصراحة: “ما هذا السعر، أنتم تسرقون الناس” فضحك قائلا: “مرحبا بك في الرياض”.

قضيت يوما كاملا في المكتب، وفي نهايته دعاني زميل عزيز لتناول وجبة شاورما. قال بثقة وكأنه يكشف لي عن سر وطني: سنذهب إلى مطعم ماما نورة. توقعت أن يكون ماما نورة محلا لألعاب الأطفال، لكنه بدا كمزار شعبي للشاورما. الطابور كان يوحي بأن الناس ينتظرون أمام هواتف أبل الجديدة. عندما تذوقت الشاورما فهمت سر الضجة. ربما لم تكن فقط وجبة طعام، بل تجربة إجتماعية تستحق الإختبار. زميلي أصر على دفع الفاتورة، بينما اكتفيت بتسجيل إسمي في قائمة عشاق ماما نورة، مع وعد خفي بالعودة لاحقا.

في المساء، إتصلت بصديق قديم، كانت عملت معه لسنوات في شركة سابقة. ورغم انقطاع الاتصال بيننا، إلا أنني شعرت بألفة كبيرة لهذا الإنسان الذي كان له فضل كبير في توجيه أفكاري خلال مراحل مهمة من حياتي. جاء بسيارته إلى باب الفندق، واستقبلني بحضن كبير وابتسامة دافئة.

كان قد أرسل لي ثلاث خيارات لمطاعم مختلفة، لأختار منها. ما هذه العناية الاستثنائية، فتحت Google Maps لاختار الأرخص، لكن المفاجأة أن الخيارات كلها كانت تتنافس في الغلاء.

طلال، الذي يعرف أدق عيوبي، لم يتغير أبدا، ظل يثق بي وبقيمي وعملي أيضا، بثبات يبعث الدفء في القلب. حديثنا كان عفويا، صادقا، سألني إن كنت أنجزت أي مشاريع شخصية وإن كنت حققت أي مكانة مادية أو إجتماعية، أخبرته أنني لا أزال في مكاني لا أبارح خطواتي، حكيت له عن الشركة التي أعمل فيها حاليا، وكان يعرفهم خير المعرفة، كنت أرى في طلال امتداد لقيمي وأحلامي أيضا.

غير بعيد عن المطعم، كان تمة لقاء تنظمه إحدى الشركات الناشئة. مررنا عليهم، التقيت بأشخاص كنت أعرفهم قبل سنوات: بدوي المدون القديم، الذي أصبح صاحب شركة نائشة، مازن، طالب الدكتوارة في كندا والذي أصبح الرئيسي التنفيذي لشركة كبيرة أيضا، إلتقيت شبانا مليئين بالطموح، يحملون أفكارا بحجم السماء. تلك الليلة رأيت وجها جديدا للبلاد، وجه يتحدث لغة الأحلام الكبيرة والطاقات المتجددة.

ما أثار انتباهي في الرياض أيضا، أن الجميع يحترم دوره. وإذا ما تأخرت أو بدوت غير واثق من مكانك، تجد من يبادرك بلطف قائلا: “تفضل”، حتى في أكثر الأماكن ازدحاما، كان النظام حاضرا. لا أحد يحاول التعدي على حق الآخر، بل على العكس، تجد تعاونا تعكسه الابتسامات والكلمات البسيطة، عرفت لاحقا عندما زرت مدن أخرى، أن هذه التصرفات تعكس ثقافة مجتمع كامل.

في اليوم الموالي، وأثناء حديث عابر مع أخ عزيز جدا في العمل، شاركت معه بعض المشاكل التي صادفتها في زيارتي هذه، أشرت إلى أن سفري جاء بشكل غير مخطط، وأني أواجه تحديا حقيقيا في السكن، أخبرني أنه سيتدبر حلا للموضوع، لم تمضِ سوى دقائق حتى وصلتني رسالة على واتساب، تحمل عنوان شقة ورمز الدخول إليها. كانت تلك المبادرة مفاجئة جدا بكرمها، هم كبير انزاح عن كاهلي.

كان السكن في منطقة جميلة تدعى مجمع صاد، الشباب يجتمعون في المقاهي لوقت متأخر، والسيارات الفاخرة تملأ الشوارع. أحببت المكان وسريعا وجدت نفسي جزءا من هذه الحياة المليئة بالصخب والحيوية.

خلال تنقلي في شوارع الرياض وزيارتي للمكاتب والمطاعم، كان هناك شيء مشترك لفت انتباهي: العطور في كل مكان تعبر منه، كأن لكل شخص توقيع عطري خاص به، روائح تحبس الأنفاس، وحتى في المولات، كنت أجد نفسي أنساق لا إراديا نحو محلات العطور، ذات زيارة، وقفت أمام أحد المتاجر أتأمل الزجاجات الأنيقة، لكن الأسعار سرعان ما أعادتني إلى الواقع؛ فاقتناء قنينة من هذه العطور يبدو وكأنه استثمار. ربما العطور ليست مجرد إكسسوارات تجميلية هنا، وإنما جزء من الهوية أيضا.

في نهاية ذلك الأسبوع دعاني زملاء العمل إلى وجبة عشاء. عندما وصلت، كان الطبق الذي قدم على المائدة أشبه بوليمة كبيرة لا تُقدم إلا في المناسبات الخاصة. كان الكرم السعودي حاضرا في كل تفاصيله. كنت وسط أناس يقدرون الضيافة ويحرصون على ترك انطباع جميل لدى من يزورهم.

مما أتذكره أيضا أنه ذات يوم، وبينما كنت أجلس في أحد المطاعم، غارقا في حديث عفوي مع أهلي في الهاتف، التقط أحد الجالسين لهجتي. اقترب مني بابتسامة وسألني: “أنت مغربي؟” أجبته بالإيجاب، وإذا به يرفع يديه قائلا: “والله، ما تخرج من هنا إلا وأنا دافع عنك”، حاولت رفض عرضه بلطف، لكنه أصر بشدة، وقبل أن أنتهي من محاولاتي، كان قد سدد الحساب بالفعل.

إحمر وجهي خجلا، لم يكن يعرفني شخصيا، ولم يكن بيننا سوى رابط اللغة والدين، والإنسانية ربما، لكنه أصر أن يعبر عن طيبته بتلك الطريقة العفوية. شكرته بامتنان، غادرت المكان وأنا أحاول إستيعاب نبل وكرم الموقف.

قضيت أياما أخرى أتنقل في شوارع المدينة، لفت نظري العمل المستمر على المترو الجديد، إذ كانوا يقومون بالتجارب الأولية استعدادا لإطلاقه. زرت المدينة المالية، حيث الأبراج الزجاجية الشاهقة، والتي تعكس طموح المملكة لتصبح مركزا ماليا عالميا جديدا. هذه الأماكن الحديثة كانت تحمل صورة مختلفة تماما عن تلك التي رسمتها في ذهني عن الرياض كمدينة قاحلة.

انتهى الأسبوع سريعا، فكرت أن هذه هي الفرصة المناسبة والتي قد لا تتكرر لزيارة مكة، إنتقلت إلى جدة عبر طيران أديل، الطيران السعودي الاقتصادي، كانت التجربة رائعة. الطائرة نظيفة، وموعد الرحلة دقيق دون أي تأخير، مطار الرياض مصدر فخر حقيقي، تصميم حديث، وتجهيزات متطورة تجعله يضاهي كبرى المطارات العالمية، ويعكس صورة مشرفة عن التقدم الذي تشهده المملكة. وصلت جدة، كان الاختلاف بين المدينتين واضحا من البداية، فبينما الرياض تعكس الحداثة السريعة والصخب، بدت جدة أكثر هدوءا ومرونة. الناس هنا أكثر بساطة، يتحركون بإيقاع أبطأ، وكأن المدينة تبدأ يومها على مهل.

كان كل شيء يحمل طابع البساطة، بعيدا عن الرسمية والنظام الذي رأيته في الرياض. حتى في الأسواق والمولات، الباعة يمازحونك بطريقة ودية: “خذ وقتك، وإستمتع بالمكان قبل أن تشتري أي شيء”، سائق التاكسي الذي أقلني من المحطة إلى الفندق كان يتحدث عن أين أجد أفضل مطعم سمك، ولماذا الكورنيش أفضل مكان لاحتساء الشاي والقهوة. ضحك وهو يقول: “سكان الرياض مشغولون دائما، هنا الأمور أبسط، والبحر يساعدنا على كده”. الطابع العام للمدينة يشجعك على الاسترخاء والانغماس في التفاصيل البسيطة. شعرت كأن جدة حالة ذهنية أكثر ما هي مجرد مدينة كبيرة.

أقمت ليلة هناك، ثم في الغذ غادرت إلى مكة المكرمة عبر قطار الحرمين السريع. القطار نظيف بشكل لافت، يبعث شعورا بالراحة والطمأنينة، أكثر ما لفت انتباهي كان الشعار الذي يزين القطارات: “رايحين أبعد”، كأن الكلمات تعكس المعنى الرمزي للرحلة، كانت لحظة استثنائية بكل المقاييس. رؤية الكعبة المشرفة، ذلك المشهد الذي طالما حلمت به ودعوت لتحقيقه منذ طفولتي، المشاعر غمرتني، مزيج من الرهبة والإمتنان، كانت هذه الزيارة من أبرز محطات رحلتي وأكثرها تأثيرا.

عدت إلى الرياض وأنا أحمل في داخلي شعورا بالرضا. كان الوقت يمضي سريعا، وكان اليوم ما قبل الأخير من رحلتي، تواصلت مع صديق قديم من عنيزة، معرفتي به تعود إلى 14 عاما مضت. لم يكن مجرد صديق عابر، بل كان مثل طلال، شاهدا على محطات مهمة في حياتي أيضا، ورغم انشغال كل منا بحياته الخاصة،إلا أننا حافظنا على ود صامت، لم يحتج للكثير من الكلمات ليبقى حيا.

عندما علم بوجودي في الرياض، لم يتردد لحظة وأصر على قطع المسافة الطويلة من عنيزة للقائي. كان إصرارا لم أتمكن من رفضه، أمضينا اليوم نتجول بين فعاليات موسم الرياض، مكان مبهر ينبض بالحياة، وعندما وصلنا إلى الجناح المغربي لتناول العشاء، شعرت وكأنني عدت إلى بلدي للحظات، أصريت على دعوته، لكنه رفض بشدة قائلا: “أنت ضيف عندنا”، كنت عرفت مبكرا أن الكرم ليس عادة بل أسلوب حياة متجذر عند السعوديين.

حان وقت عودته إلى عنيزة، ودعني بحرارة مضيفا: “زيارتك القادمة لن تكون إلى الرياض، بل إلى عنيزة”، كنت أشعر ببعض الحزن لوداعه، عدت إلى الشقة تلك الليلة، أراجع تفاصيل ذلك اليوم وأسترجع الحوارات العفوية، الأصدقاء الحقيقيون لا يبتعدون، والصداقة الحقيقية لا تتآكل بفعل الزمن.

حان وقت مغادرتي، سائق أوبر الذي أخطأت معه في تحديد المحطة إلى مطار الملك عبد العزيز لم يتذمر، ولم يطلب أجرة إضافية، صحح الطريق بهدوء، وعندما نزلت، ودعني وتمنى لي رحلة موفقة.

أقلعت الطائرة، وبينما كنت أراقب مباني الرياض تصغر وتتلاشى تدريجيا في الأفق، شعرت وكأن جزءا مني بقي هناك، مع كل تلك التفاصيل الصغيرة التي شكّلت رحلتي. كرم الزملاء الذين دعوني إلى وليمة، سخاء الصديق الذي وفر لي مسكنا وكأنه بيتي، نظرة الحارس في محطة القطار في الدمام وهو يتحقق من هويتي، دعوة السائق الذي أعاد تصحيح الطريق بابتسامة صادقة وكلمات تفيض بالخير، وطواف الكعبة الذي أعاد ترتيب عالمي الداخلي.

الرياض كانت وجه الحداثة الجريئة، أبراجها الشاهقة وشوارعها العصرية تعكس طموحا لا نهاية له، جدة بروحها اللطيفة ولهجتها الدافئة، كانت كالاستراحة من صخب الرياض. مكة، بكل روحانيتها وسكينتها، مكانا يعيد ترتيب أولويات الروح.

في هذه التناقضات يكمن سر المملكة، هي ليست مجرد بلد يعيش على الإرث العريق، بل هي قوة صاعدة تعيد تعريف نفسها أمام العالم. السعودية الجديدة، التي تجمع بين أصالة مكة وروح جدة وحداثة الرياض، قادمة لاكتساح العالم لا محالة. طموح يحده السماء، وأرض تنبض بالإبداع والكرم والإنسانية التي تشعر بها في كل زاوية.

الرحلة لم تنته عند عودتي، بل كانت قد بدأت للتو، رحلة لاكتشاف ما يجعلنا بشرا حقا: الطيبة، الكرم، التواصل، والقصص التي تبقى في قلوبنا إلى الأبد.