كان صباحا شتويا حين وُلدت ريم، ابنة أخي الصغرى، ومنذ يومها الأول، كانت تحمل على كاهلها حملا ثقيلا: مرض وراثي مزمن قرر أن يكون رفيق طفولتها، يعاند خطواتها الصغيرة التي بالكاد بدأت تتعلم المشي.

في البداية، كنا نلاحظ ذلك الإصرار الغريب عند طلب الطعام. كانت تأكل بشهية كبيرة، تلتهم قضمة تلو الأخرى دون توقف، وكأنها تسابق الزمن لتملأ فراغا لا يُسَدّْ.

استغرب الجميع من هذه الشهية التي لا تنتهي، وبدأت الهمسات تنتشر من حولها: لماذا تأكل بهذا الشكل؟ هل هذا طبيعي لطفلة في عمرها؟

وفي كثير من المواقف التي لم تخلو من سوء الفهم، كنا ننهرها: “لما تأكلين كل هذا، ألا تشبعين؟” كانت تنظر إلينا بعينيها البريئتين، ثم تواصل الأكل بصمت، كأنها تقول: أنا جائعة.

لم ندرك حينها أن هذا الجوع لم يكن جوعا عاديا، بل كان جسدها الصغير يصرخ طلبا للمساعدة. لم يكن الطعام يمنحها الطاقة التي تحتاجها، كان جسدها يستهلك كل شيء، ويتركها في حالة جوع دائم.

عرفنا لاحقا أن الطفلة لم تكن جشعة كما ظننا، بل كانت ضحية لجسد ينخره المرض ببطئ، كل مرة تناولت فيها الطعام بلهفة، كانت في الحقيقة تحاول البقاء على قيد الحياة وحسب، تحاول أن تسد ذلك الفراغ الذي لم يكن بوسعنا أن نراه.

كانت رحلة المستشفيات تفسر لنا كل شيء، رغم الإنكار المستمر ورفض تام لسماع الحقيقة. أصوات الأجهزة الطبية، روائح المعقمات وهمسات الممرضات، كنا ننتقل من طبيب إلى آخر، من مستشفى إلى آخر، كان كل طبيب يحمل لنا تشخيصا جديدا، لكننا لم نتوقف أبدا عن البحث.

أخيرا أدركنا أن ريم لم تكن تطلب طعاما فقط، بل كانت تطلب الحياة.

في البداية كان شعر ريم شديد السواد ولامعا. لكن المرض بدأ يترك آثاره شيئا فشيئا. لاحظنا أن اللون بدأ يتغير، يفقد بريقه، ويأخذ لونا باهتا كأنه يعكس تعب جسدها الصغير.

في كل مرة كنا نلاحظ تغييرا جديدا، كنا نضع أيدينا على قلوبنا، ونتساءل بقلق: “ما الذي سيأخذه المرض هذه المرة؟” كان شعرها يخبرنا بقصة لا نريد أن نسمعها، قصة جسد يخوض معركة شرسة، يحارب بأضعف أسلحته، ويرفض الاستسلام.

أصوات الأجهزة الطبية كانت تلاحقنا حتى في المنام، والفواتير المرهقة كانت تتكدس بالشكل الذي أصبح من المستحيل تسديدها. اضطررنا لبيع أغراض ثمينة: ذهب والدة ريم، وبعض من أثاث المنزل، لتسديد جزء من هذه الفواتير، إذ كانت تتجدد مع كل رحلة إلى مستشفى في مدينة بعيدة. كل رحلة كانت تبدأ بأمل وتنتهي بخيبة كبيرة.

كانت ريم تبتسم رغم كل شيء. عندما كانت تستفيق من جلسات العلاج الطويلة، كانت تطلب أن نقرأ لها قصصا للتسلية. كنا نرى في عينيها رغبة لا يمكن تفسيرها، كأنها كانت تحلم بعالم خال من الألم، حيث يمكنها أن تجري وتضحك دون قيود.

محمد، أخي والظل المرافق لريم في كل مراحل معاناتها. لم يفارقها أبدا، رغم اعتراضنا أحيانا بسبب ثقل الحمل. أتذكر يوما حينما انفجرت غاضبا وقلت له: “لما كل هذا؟ لماذا لا يتحمل والدها بعض الأعباء؟”

صمت للحظة، وأجاب بسذاجة نادرة: “ريم عزيزة علي ونبغي نعاونها”.

تلك الكلمات ظلت تلاحقني لأيام ولم أستطع أن تخطاها. أدركت أن محمد لم يكن يفعل ذلك لأنه مضطر، بل لأنه يرى في مساعدة ريم مسؤولية متخلى عنها.

كان المرض أشبه بوحش ينهش جسدها الصغير، يفرض علينا أن نكون دائما في حالة تأهب. المستشفيات أصبحت بيتنا الثاني. كنا نقضي ساعات طويلة في الانتظار، نراقب المارة في صمت.

“مرض مزمن” و “أدوية مدى الحياة” الخ، أصبحت عبارات مألوفة لدينا.

ساعات السفر الطويلة كانت تُنهكها، لكن ريم كانت تصمد دائما، تنظر من نافذة الحافلة وتبتسم وكأنها تخفف عنا عناء ما ينتظرنا.

مع مرور الوقت، بدأ المرض يتسلل ببطء إلى حواس ريم. كانت تحب الرسم، وغالبا ما كنا نجدها جالسة ترسم نجوما صغيرة. إذ وحتى في أصعب لحظات المرض، كانت ريم تضحك وتلعب، وتصر على أن تكون طفلة.\

ذات يوم لاحظنا أنها تقترب كثيرا من الورقة، كأنها تحاول أن ترى التفاصيل بصعوبة. انقبضت قلوبنا، وأخذناها لطبيب العيون هذه المرة، الذي أخبرنا أن المرض بدأ يؤثر على بصرها.

بعد أيام، جاء التشخيص: “لديها عيب في العينين، ويجب أن ترتدي نظارات لتصحيح النظر”.

عندما أخبرناها بذلك، نظرت إلينا وقالت: “هل سأفقد البصر؟ ولن أرسم النجوم ثانية؟”.

كيف أجيب عن هذا السؤال؟ شعرت أن الكلمات تهرب مني. كنت أريد أن أقول لها إن النجوم ستبقى دائما هناك، لكنها قد لا تستطيع رؤيتها مجددا.

بدلا من ذلك، أمسكت بيدها وقلت: “لا، النجوم معك دائما”. ربما لم تكن تسألني لتسمع الحقيقة، بل لتطمئن أننا سنظل معها، إلى نهاية الرحلة.