كان كمال، أخي الأوسط، قدوتي في الدراسة، ذكاؤه في الرياضيات يتجاوز فهم الأرقام، إذ كان يحولها إلى لعبة، يشرح لي النظريات الصعبة بأسلوب بسيط حتى أتمكن من استيعابها. وفي أعماقي، كنت دائما أعتقد أن كمال سيكون يوما ما عالما أو مهندسا كبيرا، ومصدر فخر للعائلة.
عندما وصل إلى فترة المراهقة. بدأنا نلاحظ بعض التصرفات الغريبة: التأخر في العودة إلى المنزل، قضاء وقت أطول مع أصدقاء جدد لا نعرفهم. بدوا وكأنهم يجرونه بعيدا عن عائلتنا وعن حياته القديمة. لم أكن أفهم حينها مدى تأثير الصحبة السيئة، لكنني كنت ألاحظ كيف أصبحت نبرته مختلفة، أقل احتراما وأكثر تمردا. كانت والدتي تحاول بقدر الإمكان أن تحتويه، لكن الأمر كان يتجاوز قدراتها.
مع مرور الوقت، أصبح التغير في كمال أكثر وضوحا. بدأ ينسحب تدريجيا من عالم الرياضيات والدراسة التي كانت هوايته. كان يعود في ساعات متأخرة من الليل، تفوح منه رائحة السجائر، وأحيانا الكحول. النقاشات الحادة التي كانت تحدث بينه وبين والدتي أصبحت جزءا من روتينا اليومي، ثم تحولت إلى صراعات حقيقية، وصراخا يملأ المكان. كنت أجلس في غرفتي، أحاول أن أذاكر، لكن الضجيج كان يجعل الأمر مستحيلا.
مع انهيار كمال، شعرت أنني أنهار أنا الآخر. أصبح من الصعب التركيز في الدراسة، لم يعد البيت مكانا للراحة. كنت أعود من يوم طويل في المدرسة لأجد المنزل مشحونا بالتوتر. وأحيانا كنت أعود لأجده غائبا لأيام، دون أن أعرف أين هو أو مع من. هذه الفوضى أثرت في نفسيتي بشكل عميق. شعرت بالاكتئاب والوحدة، ولم أكن أجد من أشاركه هذه المشاعر.
في البداية، كانت التغييرات بسيطة: نسيان كلمات أثناء الحديث، صعوبة في تذكر مواقف حدثت للتو. كنا نعتقد أن الأمر مجرد إرهاق أو تشتت، لكنه كان أكثر من ذلك بكثير. عقله، الذي كان يوما شحنة من الذكاء، بدأ ينهار ببطء. أصبحت عيناه، اللتان كانتا تشعان بالحياة، فارغتين، كأنهما نافذتان تطلان على فراغ لا نهاية له.
أمي كانت أول من لاحظ التغيير. كانت تحاول التحدث معه كعادتها، لكن كمال لم يعد يفهم الحديث كما ينبغي. أحياناً كان يحدق فيها بصمت، وكأن الكلمات تفلت من عقله قبل أن يتمكن من إدراكها. كان ينسحب من الحوار فجأة، ينظر إلى الفراغ، ويغرق في صمت ثقيل.
أخي، الذي كان يقضي ساعات في حل أصعب مسائل الرياضيات، لم يعد يستطيع حساب أبسط الأشياء. كان ينظر إلى الساعة دون أن يدرك الوقت، ينسى طريقه إلى المنزل رغم أنه قد سلكه مئات المرات. أصبح شبحا في هيئة إنسان، وحياتنا تحولت إلى كابوس طويل لا نستطيع الاستيقاظ منه.
عندما أخدناه إلى المستشفى أول مرة، كان ذلك على أمل أن نجد تفسيرا أو علاجا. الأطباء كانوا صريحين معنا: “الضرر الذي أحدثته المخدرات في عقله لا يمكن تداركه.” كنا ننظر إلى كمال وهو يجلس هناك، يحدق في الأرض كطفل ضائع، ولم نكن نصدق أن هذا هو الشخص نفسه الذي كان يوما ما فخرا للعائلة.
والدتي، برغم كل الخيبة، لم تفقد إيمانها.جربت كل شيء: الأدوية، الجلسات العلاجية، حتى أنها أخذته إلى حفظة القرآن في القرى النائية. كانت كلها محاولات يائسة.
أتذكر إحدى الليالي عندما كان جالسا في إحدى زوايا الغرفة، يحدق في الظلام. اقتربت منه وسألته إن كان يحتاج شيئا. نظر إلي بعينين فارغتين وقال: “ لا أعرف أين أنا، وأشعر بالفراغ”.
كانت كلماته تلك كافية لتحطم قلبي. لم أستطع الرد. لم أكن أعرف هل أعزيه أم أعزي نفسي.
في يوم آخر، وخلال زياراتنا لأحد المستشفيات، عدنا للمنزل لنجد والدتي جالسة في غرفتها. ولأول مرة، لم تحاول إخفاء دموعها. قالت لنا بصوت متقطع: “كمال اللي نعرفه قد ذهب بدون رجعة. حتى وإن كان لا يزال بيننا، فعقله قد ذهب بعيدا” لم ندري بما نجيب. كانت كلماتها هي الحقيقة الوحيدة التي لم نكن نجرؤ على قولها.
هذه القصة ليست عن أخي. إنها عن كل عائلة تعاني من فقدان أحد أفرادها، ليس بالموت فقط، بل بالضياع في هذه الحياة. تذكير كيف يمكن للحظة طيش أو ضعف أن تغير مسار إنسان. كمال كان يمكن أن يكون شخصا مختلفا، شخصا عظيما. لكنه اختار طريقا جعلنا جميعا ندفع الثمن. واليوم، كل ما أملكه هو الأمل بأن يجد طريقه نحو النور.
اليوم، وقد كبرت، أصبحت أرى الأمور بشكل مختلف عن السابق. أشعر بثقل المسؤولية يتضاعف. كمال ليس قادرا على إدارة حياته، ووالدتي لم تعد تلك المرأة القوية، ولن تكون هنا للأبد. أحيانا أفكر في المستقبل وأشعر بالرعب. كيف يمكننا أن نعتني به؟ كيف سنملأ الفراغ الذي ستتركه والدتي عندما ترحل؟ هذه الأفكار تسرق النوم من عيني، وتجعلني أشعر بالعجز الكامل أمام مصير يبدو مظلما ولا مفر منه.
كمال لا يزال يعيش بيننا كظل لإنسان كان مليئا بالحياة ذات يوم. أحيانا يجلس في زاوية المنزل، ينظر إلى صوره القديمة، وكأنه يحاول أن يتذكر نفسه. لكنه لا يستطيع. أمي لا تزال تحاول الحديث معه، تنظفه وتطعمه بيديها كأنه طفل صغير، وتفرش له الغطاء عندما ينام. لكنها، وأنا كذلك، نعلم جيدا أن كمال لن يعود أبدا.
كل يوم، أرى أمي تنطفئ شيئا فشيئا، وأرى كمال يغرق أكثر في صمته وظلامه. أحاول أن أتمسك بالأمل، لكنني أدرك أن بعض الجروح لا تلتئم، وأن بعض الخسائر تبقى معنا إلى الأبد.