في مدينة صغيرة تعج بالحياة، حيث الأزقة الضيقة تروي قصصا لا تنتهي، وحيث تتداخل ذرات الغبار مع رائحة الرغيف المخبوز على عجل، وأصوات الباعة التي تملأ المكان، صخب الأطفال وحكايات الناس التي تختبئ خلف أسوار السوق القديم. كنت أعمل بلا كلل، أحمل الصناديق وأجري بين الأكشاك، لا لأشتري لعبة جديدة أو قطعة حلوى كما يفعل أقراني، بل لأقطع مسافات طويلة كل يوم أربعاء، للوصول الى المكتبة الوحيدة التي كانت تبيع مجلة “ماجد”، مجلة الأطفال الأولى في العالم العربي آنذاك، تلك الصفحات الملونة كانت نافذتي إلى عوالم بعيدة، مليئة بالشخصيات التي تمنيت يوما أن أكون مثلها.
طريقي إلى المدرسة كان بدوره رحلة أخرى، طويلة وشاقة. أقطع الكيلومترات يوميا على قدميّ ، بينما حلم صغير يرافقني: أن أصل إلى مقعدي في الصف، حيث العالم يبدو أقل قسوة والخيال يصبح أكثر رحابة.
حقيبتي كانت ثقيلة، ليس بالكتب فقط، بل بأحلامي التي أثقلت كتفيّ أكثر من أي شيء آخر. في كل خطوة كنت أقترب أكثر من عالمي، وأترك وراءي واقعا لم أكن أنتمي إليه. كنت أؤمن أن هناك شيئا أكبر ينتظرني، شيئا يستحق كل هذا الجهد، وكل هذه المسافات.
هكذا، كنت أخطو، طفل صغير بأحلام أكبر من حجمه، مؤمن أن بين زوايا الحي الضيقة وصخب الحياة، والسوق الشعبي، فرصة تنتظر أن تُكتشف، وحكاية تستحق أن تُكتب.
ذات يوم، وبينما كنت أساعد أخي الأكبر في بيع بعض الأغراض، جاءني رجل ودود بابتسامة مطمئنة. طلب شراء بضعة أشياء، ثم قال إنه ترك المال في سيارته وطلب مني أن أتبعه. تبعته بثقة طفل لم يعرف الغذر بعد، أسير خلفه بين أزقة السوق المزدحمة، حتى اختفى فجأة وسط الزحام. وقفت مذهولا، أبحث عنه بين الوجوه، أسأل نفسي كيف تبخر بهذه السهولة. استوعبت ببطء أنني تعرضت للسرقة، وأن كل ما بعته قد ذهب بلا عودة.
شعرت بالصدمة، وتجمدت في مكاني. كانت الدقائق تمر كأنها ساعات، وأنا أراجع تفاصيل ما حدث: الشخص الذي بدا واثقا، كلماته التي بدت مطمئنة، الطريقة التي أخذ بها البضاعة والنقود واختفى وكأن الأرض ابتلعته. كنت أقف هناك وسط المارة، تائها، أنظر حولي في ذعر، كأن أحدا سيأتي لإنقاذي، لكن لم يكن هناك أحد. كل ما شعرت به هو البرد الذي تسلل إلى داخلي رغم حرارة النهار.
ما فقدته لم يكن فقط ٨٠ درهما كبضاعة و٢٠ درهما سلمتها له على أمل الحصول على ١٠٠ درهم كاملة، بل فقدت معها إحساسي بالأمان. كانت تلك السرقة أكثر من مجرد خسارة مادية، كانت أيضا خيانة لثقتي الطفولية في الآخرين. عدت أدراجي محاولا أن أجد تفسيرا، أو معلومة ما لدى الباعة الآخرين، لكن كل شيء كان صامتا، وكأن السوق قد تواطأ مع السارق لإخفاء الجريمة.
كنت أرتجف وأنا أقترب من أخي الأكبر لأخبره بما حدث، محاولا أن أجمع شتات الكلمات التي بدت وكأنها تهرب مني. كنت أعلم أن العبارات التي سأقولها لن تُصلح الأمر، لكنها كانت الوحيدة التي أملكها. بدأت أتلعثم، أحاول شرح ما جرى: “قال إنه سيعطيني ١٠٠ درهم كاملة”، ثم توقفت، وكأنني أبحث عن طريقة أخرى لأجعل الحقيقة تبدو أقل قسوة.
حاولت أن أفسر كيف أنه أخذ البضاعة، تلك التي كنت أحرسها بفخر منذ الصباح، واختفى معها كما يختفي السراب. شعرت أن كلماتي لا تصل، أو أنها تصل لكنها تزيد غضبه. كنت أحاول أن أشرح، أن أبرر، لكني لم أكن أملك سوى اعترافي المؤلم: “لقد خُدعت”.
كانت صرخاته تعلو فوق ضجيج السوق، توقف الجميع عن عملهم لينظروا إلي. شعرت بعيون الباعة تُحاصرني من كل جانب، بعضهم ينظر بشفقة، وآخرون يرمقونني بسخرية مستترة، وكأن ما حدث لي كان عرضا ترفيهيا أضافه السوق إلى يومهم المعتاد.
الحرج كان خانقا، أثقل من أي حمل آخر حملته في ذلك السوق. حاولت تجنب نظراتهم، لكني شعرت كمن يقف عاريا في منتصف حشد، مكشوفا وضعيفا. لم أكن أعرف كيف أُخفي وجهي، أو كيف أشرح لهم أنني لم أكن غبيّا، بل كنت فقط طفلا صغيرا لايفهم معنى الغذر.
كانت تلك اللحظة التي رأيت فيها كل ما اعتقدت أنه يمثلني، فطنتي، اجتهادي، وحتى قيمتي، تنهار أمام أعين الآخرين. لأول مرة في حياتي، عرفت معنى أن يكون ضعفك مكشوفا، بلا غطاء أو حماية، أمام جمهور صامت، ينظر إليك، بينما ينتظر سقوطك.
ورغم مرور أكثر من ثلاثين عاما، إلا أن تلك القصة لا تزال محفورة في ذاكرتي كأنها حدثت بالأمس. الإحراج الذي شعرت به في تلك اللحظة لم يكن عابرا، والخداع الذي تعرضت له ترك شرخا عميقا في داخلي، أثرا لم تُخفه السنوات أو تطمس ملامحه السنون.
في أحد الأيام، وبينما كنت أقف قرب زاوية في السوق، أسترق النظر من بعيد، وقعت عيني على عربة للبطاطا المقلية. كانت رائحتها تغمر المكان، ولونها الذهبي يلمع تحت ضوء الشمس، كنت أراقب الناس وهم يشترونها، يلتهمونها بفرح لم أكن أملك رفاهية مشاركته.
وقفت هناك أشتهي بصمت، جيبي خال من أي درهم، وقلبي مفعم برغبة بسيطة لا أملك تحقيقها. اكتفيت بالوقوف والمراقبة، أعيش لذة الحلم، وأقنع نفسي أن الغد قد يحمل معه فرصة أفضل.
وفي كل مرة كنت أقف في نفس الزاوية، كانت رائحة البطاطا التي تملأ المكان تسحبني نحوها، لكن الخجل والعجز يثقلان خطواتي. لم أكن أجرؤ على الاقتراب، كنت أراقب بصمت، أشتهي بصمت، وأغادر بصمت.
وذات يوم، وبينما كنت أقف هناك كعادتي، ناداني البائع بابتسامة دافئة، لم أفهمها في البداية. أشار لي أن أقترب، وعندما اقتربت، ناولني وجبة من البطاطا، طازجة وساخنة، شعرت بأنني في حلم، نظرت إليه بدهشة وقلت: “ليس معي مال”، ابتسم، وقال كلمات لم أنسها قط:” لا تقلق، شخصٌ ما دفع ثمنها لك”.
سألته من هو ذلك الشخص، لكنه هز رأسه وأجاب: “لم يترك اسمه، فقط طلب أن أعطيك هذه.” وقفت هناك للحظات، أُمسك الوجبة بيدين مترددتين، أحاول أن أستوعب ما حدث.
تلك اللحظة تركت أثرا عميقا في نفسي، أثرا لا يزال يعيش معي حتى الآن. لم يكن الأمر فقط عن البطاطا المقلية، بل عن شعور عميق بالإنسانية، عن أن هناك أشخاصا في هذا العالم يرون حاجتك دون أن تطلب، ويساعدونك دون انتظار مقابل أو حتى اعتراف. شعرت بشيء أكبر من الامتنان، شعرت بأن تلك الوجبة كانت رسالة صغيرة وسط زحام السوق، رسالة تقول إن الخير موجود دائما، حتى حين لا نراه.
في سن مبكرة، كنت أعي تعقيدات العالم، وكنت أملك شعورا واضحا اتجاه الأشياء: فمثلا أتذكر أنني كنت أكره الذهاب إلى الحمام الشعبي. إذ كان المكان بالنسبة لي خانقا، متسخا، حاولت مرارا أن أشرح كرهِي لذلك المكان، ولكن في ذلك اليوم، قررت أن أفعل شيئا مختلفا. دخلت مع والدي، وبعد دقائق تسللت بخفة، متجنبا الأنظار، خرجت هاربا بكل ما أوتيت من سرعة، كما لو أنني أهرب من سجن.
أثناء عبوري طريق المشاة مسرعا، لم أنتبه للسيارة القادمة. لم تكن هناك فرصة لتدارك الأمر. كل ما أتذكره هو صوت عال يصم الآذان، ثم صمتا مطبقا.
عندما فتحت عينيّ، لم أكن أعلم أين أنا. شعرت بثقل في رأسي، وجسدي كان لا يتحرك. لكن الحقيقة التي لم أدركها حينها هي أنني كنت قد أمضيت شهرا كاملا في غيبوبة. تلتها ثلاث أشهر أخرى في المستشفى أخضع للعلاج. فاتتني سنة دراسية كاملة. أصدقائي الذين كانوا يملؤون الصف بأصواتهم وحكاياتهم اليومية مضوا إلى السنة التالية، بينما أنا كنت عالقا بين أربعة جدران. كنت أستمع إلى حديث الأطباء والممرضات عن حالتي. لم أكن أفهم تماما حجم الخطر الذي نجوت منه، لكنني شعرت بالخوف العميق من أنني ربما لن أعود أبدا كما كنت.
الأيام في المستشفى كانت طويلة، أشبه بإنتظار لا ينتهي. كنت أراقب الضوء يتغير عبر النافذة، وأتساءل عن كل ما فاتني. أتذكر زيارات أهلي اليومية، كيف كانوا يبتسمون لي رغم عيونهم التي تخفي القلق والحزن. كنت أشعر بحبهم ورغبتهم في أن أتحسن، وهو ما منحني شعورا بالأمل، رغم أنني كنت أعيش حالة من الخوف والضعف لم أختبرها من قبل.
عندما عدت أخيرا إلى المنزل، كنت قد تغيرت. جسدي لم يكن كما كان، ونفسيتي كذلك. لكن أكثر ما شعرت به كان الإحساس بأنني حصلت على فرصة جديدة. العودة إلى المدرسة بعد سنة كانت أشبه بتحد كبير. كنت متأخرا عن أقراني، أبحث عن مكاني من جديد في صف جديد مع وجوه جديدة.
تلك الحادثة علمتني الكثير، أن الحياة قد تتغير في لحظة، وأن قرارات بسيطة مثل الهروب من الحمام يمكن أن تأخذ منعطفات لا يمكن تخيلها. علمتني أيضا قيمة الأشياء التي نعتبرها بديهية، الصحة، وحب الوالدين الصادق. كنت حينها طفلا، ولكن تلك التجربة تركت في داخلي شعورا بعدم الأمان لم يغادرني أبدا.
مرت السنوات وكبرت ، كانت الأيام تمر ببطء، وكنت عالقا بين الرغبة في تحقيق شيء أكبر وبين الواقع الذي يقيدني. كنت أتنقل بين مقاهي الأنترنت في الحي، أجلس ساعات طويلة أتعلم وأكتب الأكواد، أشعر أنني أقترب شيئا فشيئا من ذلك العالم الذي طالما حلمت به. كنت أعرف أن مقاهي الإنترنت لن تكون كافية. أردت أن أمتلك مكانا خاصا بي، جهازا أعمل عليه بحرية، أكتب فيه أحلامي وأحولها إلى حقيقة. لم يكن الأمر سهلا. إذ كنت بالكاد أستطيع توفير المال، لكنني كنت مصمما على أن أبدأ، مهما كانت الظروف.
أتذكر جيدا أول جهاز حاسوب امتلكته. كان أشبه بتحقيق حلم كنت أطارده طويلا، لم يكن جديدا ولا متطورا، لكنه كان كل ما أحتاجه لأبدأ رحلتي في عالم البرمجة من المنزل. اشتريته بدفعات صغيرة، كنت أدخر كل درهم أحصل عليه حتى تمكنت أخيرا من جلبه إلى غرفتي. لم تكن الغرفة مثالية بأي شكل، كانت بلا باب يحميها من البرد، لكني كنت سعيدا بوجود حاسوبي أمامي.
كنت أعمل ملفوفا في طبقات من الملابس، أحيانا أضع غطاءا فوق كتفيّ لأتقي البرد القارس. كنت أقضي الليالي أتعلم وأجرب، أكتب الأكواد وأختبرها وأحذفها وأعيد المحاولة، وكأنني أعيش في عالم مواز لا يمت لواقعي المرير بصلة.
لكن الفرحة لم تدم طويلا. اكتشفت بعد فترة أن الجهاز به عطل غريب، كان ينطفئ فجأة دون سابق إنذار. كنت أعمل لساعات على مشروع أو تجربة برمجية، ثم فجأة، كل شيء يختفي بضغطة زر. كل ما كتبته، كل ما تعلمته، يضيع في لحظة.
حاولت إصلاحه بنفسي بطرق بدائية، كما ذهبت إلى بعض ورش الصيانة، في النهاية، اضطررت لبيعه. بعته لصانع حواسيب ليستخدمه كقطع غيار. لم يكن لدي خيار سوى العودة إلى مقاهي الإنترنت. تلك العودة كانت أشبه بالرجوع إلى نقطة البداية. كنت أجلس بين الضجيج ورائحة السجائر مجددا، أبحث عن الهدوء وسط الفوضى لأواصل تعلمي. بعد ذلك بشهور، وصلني عرض عمل في الكويت.
أتذكر تلك الليلة وكأنها حدثت بالأمس. كنا نجلس أنا وأمي وأختي في غرفتي البسيطة، نحسب ونراجع ما نملك من المال، المبلغ لم يكن كافيا لشراء تذكرة السفر. شعرت حينها بمرارة العجز، كيف يمكن لحلم كبير أن يتوقف عند عتبة المال؟ أمي، بنظرتها التي تحمل كل معاني القلق، اقترحت أن نطلب المساعدة. لم يكن الأمر سهلا علينا كعائلة تعودت أن تواجه ظروفها بصمت، لكن الحلم كان أكبر من كبريائنا.
ذهبت أمي إلى جارتنا، تلك المرأة التي عرفناها سنوات طويلة، جارة بسيطة لكنها تحمل في قلبها من الطيبة ما يكفي لإضاءة حي كامل. أخبرتها أمي عن حاجتنا، عن تذكرة السفر التي ستفتح لي بابا لحياة جديدة. لم تتردد الجارة للحظة. فتحت صندوقا وأخرجت منه المبلغ الذي كان ينقصنا. كانت أمي تتحدث بنبرة مليئة بالشكر، بينما كنت أراقب بصمت، أحاول أن أستوعب المغزى من ذلك، شعرت بثقل الدّين ونبل الموقف.
حملت التذكرة في يدي، وكنت أحمل معها إحساسا عميقا بالمسؤولية. لم تكن تلك الورقة مجرد تذكرة سفر، بل كانت وعدا بأن أحقق شيئا، بأن أعود يوما وأنا أملك ما يكفي لسداد هذا الجميل. في الطريق إلى المطار، كنت أفكر في تلك الجارة، في يدها التي امتدت لتضيء لي طريقا جديدا، وفي نظرة أمي التي كانت خليطا بين الفرح والخوف. لم يكن الأمر مجرد اقتراض، كان تذكيرا أن الخير يمكن أن يأتي من أكثر الأماكن تواضعا.
كنت أحمل في حقيبتي الصغيرة أحلاما كبيرة. كنت أظن أنني أخيرا وجدت الفرصة التي ستغير حياتي إلى الأفضل. تبرعت بطابعة كومبيوتر وكل ما أملك لجمعية خيرية.
الرحلة إلى مطار الدار البيضاء كانت واحدة من أكثر اللحظات التي لن أنساها أبدا، رحلة مليئة بالمشاعر المتناقضة: الفرح، القلق، والخوف من المجهول. أمي وأختي كانتا رفيقتيَّ في الرحلة.
كانت تلك المرة الأولى التي أركب فيها القطار. جلست بجانبهما، وأنا أنظر من النافذة إلى المشاهد المتغيرة بسرعة، أشعر بأنني أودع جزءا من حياتي بينما أستعد لبداية جديدة. كانت أمي تجلس بصمت، لكن عيناها قالتا كل شيء. عندما وصلنا إلى المطار، شعرت وكأنني انتقلت إلى عالم آخر. كنت أراقب الطائرات من النوافذ الكبيرة، أحاول أن أستوعب أنني على وشك أن أكون أحد هؤلاء المسافرين الذين طالما رأيتهم في التلفاز. كانت هذه أيضا المرة الأولى التي سأركب فيها الطائرة، ولم أكن أعرف كيف أصف شعوري. خليط من الترقب والخوف، ومعه شيء من الإثارة. لحظة الوداع، كانت الأصعب. أمي، التي لم تكن تُظهر ضعفها أبدا، احتضنتني بقوة وكأنها نادمة ولا تريد أن أذهب، أختي كانت تحاول أن تبدو صلبة، لكنني رأيت دموعا لم تستطع أن تحبسها.
صعدت الطائرة وجلست في مقعدي. كنت أنظر من نافذة الطائرة، أشاهد الأرض تبتعد أكثر فأكثر، وأفكر في أمي وأختي اللتين ستعودان إلى المنزل فارغتي اليدين.
وصلت الكويت، كان كل شيء جديدا ومبهرا، ناطحات السحاب اللامعة، الشوارع النظيفة، المكاتب المكيفة. لكن خلف هذه الواجهة، كنت أعيش تحديات يومية لم أكن مستعدا لها. رائحة الطعام كانت تملأ المبنى الذي أسكن فيه. الطعام الهندي بنكهاته القوية ورائحته النفاذة لم يكن مجرد طعام مختلف، بل كان تذكيرا يوميا أنني غريب هنا، أنني لست من هذا المكان.
كنت أحاول التعامل مع الواقع الجديد لكن الشعور بالغربة بدأ يثقل روحي. كان الشهر الأول في عملي، وكل شيء كان يبدو كأنه بداية لحياة جديدة. ذات يوم، طلب مني مدير العمل أن أسلمه جواز سفري “لأسباب إدارية”، قالها بطريقة لم تترك لي مجالا للشك أو الرفض. كنت جديدا في البلاد، لا أفهم بعد قواعد اللعبة، ففعلت ما طلبه دون تردد.
مرّت الأيام، ومعها بدأت أشعر بعدم الارتياح. كلما سألت عن جواز سفري، كان يماطل ويتهرب، يخترع أعذارا لا تنتهي. بدأت أكتشف أن الأمر لم يكن مجرد إجراء إداري، بل كان محاولة للتحكم بي. شعرت وكأنني فقدت حريتي، كأنني أصبحت عالقا في قبضة شخص لا يعبأ إلا بمصالحه الخاصة.
الصدمة الكبرى جاءت حين علمت أن الجواز لم يكن في مكتبه كما إدعى. بحثت عنه في كل مكان، سألت زملائي، لكن دون جدوى. كنت أعيش في دوامة من الخوف والقلق، لا أملك أي وثيقة تثبت هويتي، ولا أعرف كيف أخرج من هذا المأزق. شعرت وكأنني سجين في بلد غريب، بلا مخرج، بلا صوت، ولا سند.
لم أكن فقط أواجه ضياع الجواز، بل كنت أواجه إحساسا خانقا بالخيانة. كيف يمكن لشخص يُفترض أن يكون قائدا ومسؤولا أن يستغل ضعفي بهذا الشكل؟ كيف يمكن له أن يجعلني أشعر بهذا العجز؟
كان عليّ أن أتخذ قرارا صعبا. تركت العمل بعد شهرين. شعرت أن كرامتي وحريتي أثمن من أي راتب أو فرصة. خرجت من تلك التجربة بحسرة عميقة ودرس قاس عن الثقة. جواز السفر بالنسبة لي لم يكن مجرد وثيقة، كان رمزا لحريتي، ولما يعنيه أن أكون قادرا على اختيار مصيري.
انتقلت إلى الإمارات، للعمل في شركة جديدة، الزملاء الذين كنت أعمل معهم كانوا من خلفيات متنوعة، وكان ذلك شيئا مثيرا في البداية، لكنه أيضا كان مربكا. شعرت أنني محاط بلغات لا أتقنها وعادات لا أفهمها. كنت أقضي وقتي بعد العمل وحيدا في الشقة التي استأجرتها الشركة، أفكر كثيرا في وطني المغرب. الراتب كان جيدا، والحياة كانت مريحة، لكنني كنت أفتقد شيئا أهم: الإحساس بالانتماء. بعد سنوات قليلة، قررت العودة إلى المغرب. كنت أظن أن المال قد يعوضني عن شعوري بالغربة، لكنه لم يفعل.
عندما عدت إلى المغرب، لم أستقر طويلا. جاءتني فرصة جديدة للعمل في ليبيا، مع شركة بترول هذه المرة ولم أكن أعرف حينها أن تلك الخطوة ستكون واحدة من أصعب تجاربي. في البداية، كانت الأمور تبدو عادية. طرابلس كانت مدينة مليئة بالحياة، والفرصة بدت واعدة. شعرت أنني أملك بداية جديدة، لكن ما حدث بعد شهرين فقط غيّر كل شيء. نشبت الحرب، ووجدت نفسي عالقا من جديد وسط الفوضى العارمة. ولأول مرة في حياتي، سأسمع أصوات الرصاص والقصف، شعرت وكأنني في فيلم حرب لم أختر أن أكون جزءا منه.
كانت الأيام مليئة بالخوف. انقطع الإنترنت تماما، ومعه انقطعت كل سبل الاتصال بأهلي. أسبوعان من العزلة التامة، لا أعلم شيئا عن عائلتي، ولا يعلمون شيئا عني. كنت أستيقظ على أصوات إطلاق النار وأحاول أن أتظاهر بأن الأمور بخير. لكنني كنت خائفا حتى من النظر من النافذة. في النهاية، قررت الهرب. أخرجت راتبي الذي كنت أظن أنه سينقذني، ووضعته في حقيبتي. وعند وصولي إلى المطار، أخذوا كل ما كنت أحمله معي عند الحاجز. الحقيبة واللابتوب والمال، كل شيء.
عندما كنت في طرابلس، وقبل أن تنقلب الأمور رأسا على عقب، لم أكن أعلم أن صدفة صغيرة ستكون السبب في نجاتي من الحرب. سكنت في حي عاد لا أعرف فيه أحدا. وكان هناك رجل أمن يقطن في نفس الحي، رجل هادئ لم أكن أعلم أنه سيكون السبب في إنقاذي مستقبلا.
كنت أبادله التحية كل صباح، أثناء ذهابي للعمل وأثناء عودتي منه. لاحقا وفي المطار، وبينما كان الجميع عالقون يحاولون الهرب، تعرف علي الرجل وساعدني في تجاوز الإجراءات والفوضى المحيطة. كان لوجوده هناك ذلك اليوم، الفضل الأكبر في خروجي من ليبيا سالما. كلما تذكرت تلك الأيام، أدركت أن الصدفة وحدها قادتني للسكن بقرب هذا الرجل، وكأن القدر كان يرتب الأمور من البداية. لم أستطع شكره بما يكفي حينها، لكنني أعلم أنه سيبقى جزءا من قصتي، أحد الأشخاص الذين كان لوجودهم تأثير كبير على حياتي.
الحياة استمرت، ومعها عشت قصصا أخرى. تعرضت لغدر جديد، غدر لم أكن أتوقعه ممن ظننتهم أقرب الناس إلي. من أشخاص كنت أعتبرهم ملاذا آمنا في لحظات ضعفي. وفي كل مرة كنت أنهض، أتعافى ببطء، وأعيد بناء ما تهدم، لكنني لم أعد كما كنت. أصبح قلبي أكثر حذرا، ونظرتي للناس أكثر واقعية.
كانت حياتي تتشكل كقطع من أحجية، كل تجربة تضيف قطعة جديدة، بعضها مناسب تماما، وبعضها يبدو وكأنه غريب ولا مكان له. بعد عودتي خالي الوفاض من ليبيا، كان عليّ أن أعيد بناء نفسي من الصفر. تنقلت بين منازل الأهل والأصدقاء، شعرت بثقل الاعتماد على الآخرين، لكنني كنت أبحث عن مكان أبدأ منه من جديد. ثم جاءت الفرصة. صديق عرض عليّ أن أسكن معه. بدا الأمر وكأنه استراحة من العناء، مساحة يمكنني أن ألتقط فيها أنفاسي وأعيد ترتيب حياتي.
كان المنزل فارغا، من دون أثاث، لكنه حمل وعدا بالاستقرار، لم يكن هذا المنزل مجرد سقف يأويني، ولم أتعامل معه كأنه منزل شخص آخر، بل كأنه منزلي الخاص، ملاذي الذي أردت أن أراه ينمو ويتحسن. بدأت أستثمر فيه، أصلح ما كان مكسورا، أضيف لمساتي الخاصة، أشتري أشياء صغيرة تجعل الحياة فيه أكثر دفئا.
السنوات التي قضيتها هناك جعلتني أثق بهذا الشخص كما لو كان جزءا من عائلتي الحقيقية. كنت أظن أن علاقتنا قائمة على الود والثقة المتبادلة، على تقدير ما قدمته، لكن الحقيقة كانت أبعد من ذلك بكثير.
بعد سنوات من العيش والعمل والبناء، غدر بي بطريقة بشعة، يصعب للعقل أن يتصورها. لم يكن الأمر مجرد تصرف عابر، بل خيانة مدروسة، كأن كل شيء بني على أساس من الخداع. ذلك الشخص الذي اعتقدته سندا وأمانا، تحوّل في لحظة إلى وجه آخر لم أكن أعرفه. كنت أراه أخا، رفيقا في رحلة العمر، ملاذا في وقت كنت أبحث فيه عن الاستقرار. وضعته في مكانة لا يصل إليها إلا من تثق فيهم حد الطمأنينة. كنت أظن أنني أشارك حياتي مع شخص يفهمني، يقدر جهودي، ويرى في ما أفعله امتدادا لحلمه أيضا. لكنه، بغذره وكذبه، هدم كل شيء.
شعرت وكأنني فقدت جزءا من نفسي، من قدرتي على رؤية الخير في الآخرين، كل ساعة قضيتها أنفض الغبار عن الجدران، وكل درهم أنفقته في شراء الأثاث، كل لحظة أمضيتها في ترتيب الزوايا المنسية، وكل خطوة خطوتها لتنظيف الأرضيات، كل قطعة ديكور أضفتها لتملأ الفراغات الباردة، وكل تعب عشته وأنا أحاول جعل المكان ينبض بالحياة، شعرت أن كل ذلك قد ذهب هباء.
كأن كل تلك السنوات كانت مجرد مسرحية، وأنا الوحيد الذي لم يعرف دوره فيها. كانت الخيانة ثقيلة، ليست فقط لأنها جاءت من شخص وثقت به واستأمنته على نفسي، بل لأنها نسفت كل ما بنيته داخلي من أمان وثقة في أن الصداقات الحقيقية ممكنة. كنت أجلس في تلك اللحظات، أحاول أن أستوعب ما حدث. كيف يمكن لشخص أن ينظر في عينيك كل يوم، أن يتظاهر بأنه يقدرك، ثم ينقلب عليك بهذه الطريقة؟
كيف يمكن أن يكون الغدر بهذا البرود؟ كنت أراجع كل لحظة، كل كلمة، كل موقف بيننا، أبحث عن إشارة، عن علامة تدل على أن هذا الغذر كان قادما، لكنني لم أجد شيئا. كان الغدر كاملا ومفاجئا، كأنه تم التخطيط له في جنح الظلام.
لا أحد يستطيع أن يشعر بحجم تلك الخسارة كما شعرت بها. كنت أحمل أثقالها في قلبي، وأحاول أن أبدو قويا، لكنني كنت منهارا من الداخل. صدمة عصفت بكل ما كنت أؤمن به، وتركتني أواجه سؤالا لا أستطيع الهرب منه: كيف يمكنني أن أثق بأحد مرة أخرى؟
وجدت نفسي مضطرا للبدء من جديد. كنت أحمل معي حقيبتي وألم الخديعة هذه المرة، ربما كانت تلك الخيانة هي القطعة الغريبة التي لم أكن أفهم مكانها في أحجية حياتي، لكنها الآن جزء من الصورة التي أصبحت أكثر وضوحا.
كنت دائما أبحث عن بصيص أمل، عن ذلك الحلم الذي يعطيني سببا للاستمرار. كنت أتذكر دائما مقولة الكاتب غابرييل غارثيا: “الحلم هو الشيء الذي نعيش لأجله، ولا نحققه”. ربما كان هذا هو سر بقائي. كنت أعيش أحلامي بكل تفاصيلها، أتنفسها، أجعلها جزءا من يومي، حتى عندما كان الواقع يضيق من حولي ويكاد يخنقني. كنت أرسم في خيالي صورا لمستقبل أفضل، عالما أجد فيه نفسي بعيدا عن كل تلك الآلام.
الحياة لم تمنحني لحظات راحة طويلة. كنت أتقدم خطوة وأتراجع اثنتين، كأنني في رقصة معقدة لا أملك خيارا سوى تعلم خطواتها. ومع كل تجربة، شعرت أنني أزداد صلابة، لكن الثمن كان دائما جزءا مني.
واليوم، وأنا أبلغ الأربعين، أشعر وكأن حياتي بدأت للتو. أربعون عاما مضت كأنها الفصل الأول من رواية طويلة، مليئة بالتحولات والتقلبات، باللحظات المشرقة وبالليالي الحالكة كذلك. لا أملك الكثير: شعر أشعث، ديون مرهقة، وقلب مثقل بالدروس، وكومة من التجارب التي شكلني. وهي ما تعكس صدق الرحلة التي عشتها بكل تناقضاتها.
عندما حاول كافكا أن يواسي الفتاة الصغيرة التي فقدت دميتها، قال إن الدمية لم تضِع، بل ذهبت في رحلة طويلة. كتب رسائل باسم الدمية، يحكي فيها كيف غيرت الأسفار ملامحها، وكيف أصبحت ترى العالم بطريقة جديدة. القصة كانت أكثر من مجرد محاولة مواساة لطفلة، كانت درسا عن التغيير الذي تفرضه الحياة علينا، عن الرحلات التي نخوضها ونخرج منها مختلفين تماما.
لم أعد ذلك الشخص الذي بدأ الرحلة، ولا أعتقد أنني سأكون نفس الشخص الذي سينهيها.
عندما أنظر إلى الوراء، أسترجع ذكريات حزينة على قلبي، أتذكر أوقاتا شعرت فيها أنني أضعت كل شيء، وأوقاتا أخرى وجدت فيها نفسي أقوى مما كنت أتصور، لم أعد كما كنت في البداية، لكنني أملك الآن قصة أرويها، وأملا جديدا أعيش عليه.
أقف هنا اليوم، عند هذه المرحلة من حياتي، وأقول لنفسي: ربما لم أصل بعد، وربما لن أصل أبدا. لكنني أعيش، وأتعلم، وأحلم، وهذا وحده يكفي. الأربعون ليست النهاية، بل بداية جديدة مليئة بالاحتمالات. قد لا أملك كثيرا مما يراه الناس نجاحا ماديا، لكنني أملك أغلى ما يمكن أن أملكه: الحلم الذي لا ينطفئ.
أربعون عاما علّمتني أن الحياة ليست ما نخطط له، بل ما يحدث لنا بينما نحاول التخطيط. وعلّمتني أن كل تجربة، مهما بدت صغيرة أو غير ذات معنى، تضيف شيئا جديدا إلى قصتنا. وأنا اليوم، مستعد لكتابة الفصل التالي، بكل ما يحمله من مصاعب ومفاجآت، أعلم أن الحلم مستمر، وأن الحياة دائما ستحمل في طياتها منعطفات أخرى.
ليس علينا فهم كل ما يحدث، يكفي أن نؤمن بأن كل شروق جديد هو بداية جديدة، وأننا، ما دمنا نتنفس، ما زلنا قادرين على أن نحلم، وقادرين على أن نعيش.