في صغري، كانت والدتي تحكي لي عن الجزائر، البلد الذي ولدت فيه، وترعرعت بين أزقته القديمة. روت لي كيف كانت تلعب في حديقة منزلهم في الحي التاريخي: سانت جان، عن وهران، وشوارعها التي كانت تعج بالحياة. عن بساطة العيش هناك، حكت لي أيضا عن الحرب، عن الألم الذي عاشه الناس، وعن أحلام كانت تدفن تحت أنقاض التراب.
اضطرت عائلتها إلى العودة للمغرب بعد أن هاجر كل إخوتها، تركوا خلفهم ذكرياتهم وأحلامهم، لكن الجزائر بقيت تسكن قلوبهم ولم تغادرهم أبدا.
كبرت وأنا أحمل هذه القصص معي، وأشعر بانجذاب لا أستطيع تفسيره نحو الجزائر، أغاني الراي كانت تملأ طفولتي، كنت أستمع إلى أغاني الشاب خالد، :“عيشة”، “بختة”، “وهران”، و “طريق الليسي” التي كانت كلماتها تعكس معاناتي اليومية في الذهاب إلى الثانوية (الليسي)، إذ كان الطريق مرهقا مليئا بالعقبات، كأنه انعكاس صادق لكلمات الأغنية.
الراي كان فنا نابعا من الشارع، من حياة البسطاء، من قلب المعاناة، ومن قصص الشباب الذين يبحثون عن معنى لوجودهم. لذلك فالراي ليس فقط جزءا من ذاكرتي، بل جزءا من هويتي، إنه النبض المشترك الذي جمع بيني وبين الجزائر، وبين كل من أحبوا هذا الفن العظيم.
ولا يمكن الحديث عن الراي دون ذكر الشاب حسني، الفنان الذي مثل صوت الحب والبساطة. حسني كان رمزا للشعب في فترة صعبة من تاريخه. صوتا عن الوجع، والآمال الكبيرة، وقصص القلوب المنكسرة.
أتذكر اليوم الذي تم اغتياله، كان عمري 10 سنوات بالضبط، كان يوما حزينا في الجزائر والمغرب على حد سواء. الجميع بكى، حسني لم يكن مغنيا عاديا، كان إنسانا أيضا، عكس بصدق ما يشعر به الناس. وحين رحل، شعر الجميع وكأنهم فقدوا جزءا من أرواحهم.
هذه اللحظات هي كل ما أتذكره من طفولتي كذكريات حقيقية، كنت أجلس بجانب والدتي، أصغي باهتمام وفضول، كأنني أعيش تلك التفاصيل التي تصفها. كانت الجزائر قطعة من قلبها، ومن قلبي أنا أيضا.
مرت أربعون سنة كاملة، قبل أن أتمكن من زيارة الجزائر لأول مرة. ولم أكن أعلم أنّي سأجد فيها نفسي، أو بالأحرى، سأجد نسخة أخرى مني، مُخبأة بين ثنايا شعبها الطيب. شعبٌ يُشبهني في بساطته، في بحثه الدائم عن لقمة العيش، في تعلقه بالحياة رغم قسوتها.
حين وطأت قدماي أرضها، كل شيء بدا مألوفا، وكأنني عدت إلى مكان كنت أعيش فيه منذ زمن بعيد. عند وصولي إلى مطار وهران، استقبلتني الشرطية بابتسامة دافئة، وعندما لاحظت جواز سفري المغربي، قالت لي بكل عفوية: “مرحبا بيك في بلادك.”
مشيت في أزقة وهران التي سمعت عنها من والدتي، رأيت تلك التفاصيل التي كانت تحكيها لي. كنت أتمشى في ذكريات لم أعشها لكنها تسكنني. زرت: قسنطينة، الجزائر العاصمة باب الواد (أين ولدت والدتي)، سكيكدة، جيجل، بجاية وعنابة، كان الترحاب يرافقني أينما حللت. في كل مدينة، وفي كل فندق، كنت أُقابل بوجوه مبتسمة، وأياد ممدودة. أصحاب المطاعم الصغيرة كانوا يرفضون أن أدفع الحساب بمجرد أن يعلموا أنني مغربي. أحدهم قال لي: “أنت خويا، كيفاش تخلص؟ المغرب والجزائر شعب واحد.” كانت تلك الجملة تلخص كل شيء، تلخص الحب الذي لم تستطع السياسة أن تطمسه.
زرت سطيف، بومرداس، وتيزي وزو وغيرها، أرض الأمازيغ حيث أنتمي، كانوا يتحدثون لغتي، يحملون ملامحي، ويعيشون بنفس البساطة التي كانت جزءا من طفولتي، شعرت أنني وسط عائلة كبيرة تعرفني دون أن أعرف بنفسي. تجولت بين جبال جرجرة الشاهقة برفقة عجوز طاعنة في السن. كانت تمشي بثبات، حكت لي عن ذكريات الحرب والثورة، عن سنوات الإرهاب، عن الجراح التي لم تندمل، وعن قهر الإنسان لأخيه الإنسان. وأنا أستمع باهتمام، كنت أستشعر ثقل التاريخ وعظم التضحيات.
عندما زرت بجاية وقفت أمام البحر أراقب الأمواج تتكسر على الصخور بعنف. بجانبي، كانت تجلس امرأة في منتصف العمر، عيناها تحملان حزنا عميقا. اقتربت منها وألقيت التحية. تبادلنا الحديث، حكت لي بصوت متقطع عن ابنها الذي غرق قبل شهور، في أحد قوارب الهجرة إلى إسبانيا. قالت لي وعيناها تلمعان: “آتي هنا كل يوم، أحدق في الأفق البعيد، على أمل أن يظهر يوما ما، حتى كجثة تتلاطمها الأمواج”.
اليوم، وأنا أستعيد تلك اللحظات، أشعر بامتنان عميق لوالدتي التي حملتني في ذاكرتها إلى بلدها الجزائر، وكانت القلب الذي ربط بيني وبين هذا الوطن.
أما تلك الوجوه التي قابلتها فستظل راسخة في ذاكرتي. رحابة صدورهم وسعة قلوبهم جعلتني أعيد النظر في مفهوم الوطن والانتماء. هل الوطن هو مجرد بقعة جغرافية على الخريطة؟ أم هو ذلك الشعور بالألفة والقرب الذي يجمعك بأناس لم تلتق بهم من قبل.
هي رحلة سأحملها معي أينما ذهبت، تذكرني دائما بأن الانسانية أقوى من كل الحدود، وأن الاخوة الحقيقية لا تحتاج إلى تأشيرة أو جواز سفر.