منذ سنوات طويلة، وجدت نفسي عالقا في دوامة من التصرفات المتكررة التي لا منطق لها. “الوسواس القهري” أو OCD لم يكن مجرد مفهوم أقرأ عنه في القواميس، بل كان واقعا يوميا أعيشه، حتى قبل أن أهتدي للتشخيص المناسب.

في سن مبكرة، وعندما كنت أمسح محفظتي جيدا، عند كل دخول للمنزل، كانت عائلتي تنظر لي باستغراب، كنت أحاول التظاهر بأنني “أنظف بقعا عالقة” وحسب، لم يشكوا أبدا أنني أعاني من خلل ما، لكنني كنت أشعر أن هناك شيئا ليس على ما يرام، وأنني عالق في حلقة لا نهاية لها.

كنت عندما أستقل سيارة الأجرة، أحمل معي دوما جريدة أو منشفة صغيرة، لأفرشها بعناية على المقعد قبل أن أجلس، كان جل السائقين ينظرون إليّ بريبة، نصفهم مستغرب ونصفهم الآخر يحاول كتم ضحكة مدوية، وأحيانا كانوا يفشلون في ذلك.

كنت أعود للمنزل بعد تلك المواقف يملأني الشعور بالحسرة، أفكر كيف أن شيئا بسيطا كهذا يمكن أن يجعلني مادة للسخرية، وكيف أنني أشعر بهذا القدر من الغرابة في عالم يبدو لي فوضويا وغير مفهوم.

واليوم، بمجرد أن أعبر عتبة الباب، تبدأ الطقوس التي لا مجال للتنازل عنها، أسميها process أو تفاصيل ال checking، كل ما أرتديه خارج السكن لا مكان له هنا. أخلع ملابسي وكأنني أتعامل مع “بدلة ملوثة”، ثم أبدلها بملابس السكن النظيفة، قد يبدو هذا غريبا، لكنه بالنسبة لي يُشعرني بشيء من الراحة.

الهاتف، المفاتيح، حقيبة الظهر، وحتى أكياس التسوق. كل ما يرافقني من الخارج يخضع لعملية “تعقيم” دقيقة. الهاتف يمسح بمناديل مبللة وكأنني سأُحضره لمهمة ما في غرفة العمليات. إذا كنت تتساءل: هل أفعل ذلك مرة واحدة؟ بالطبع لا، أحيانا أشعر أن المسح ليس كافيا، فأكرر العملية مرة أو مرتين حتى أطمئن.

الأغراض الأخرى مثل الحقيبة أو المحفظة، تعامل وكأنها جلبت معها جراثيم من الخارج. أفرغ محتوياتها، أمسحها، ثم أضعها في مكانها. وحتى الأغراض التي أضعها على الطاولة أو الرفوف يتم تنظيفها بشكل دوري، ليس لأن عليها أوساخا واضحة، بل لأن فكرة أنها “قد تكون ملوثة” تلاحقني بلا توقف.

حتى الطعام القادم من الخارج له قواعده. لا يمكنني أن أضعه على الطاولة مباشرة. يجب أن أُنظف العبوات أولا، أما ترتيب الأشياء داخل المنزل،فكل شيء يجب أن يكون في مكانه بدقة. الكراسي يجب أن تكون زواياها مثالية. الصحون لا يمكن أن تكون مائلة. وأحيانا أقضي دقائق طويلة في تعديل شيء بسيط مثل وضعية الملعقة على الطاولة، فقط لأشعر براحة نفسية تعيد لي بعض التوازن.

ما أعانيه من اضطراب لا يتوقف عند النظافة و الترتيب فقط، بل يمتد لما أعمل عليه في الحاسوب ايضا. أحيانا أجد نفسي أقضي وقتا أطول مما يجب في أشياء صغيرة، مثل إعادة ترتيب إيقونات سطح المكتب لتكون في أماكن “مثالية”، أو إزالة إيقونة غير مستخدمة لأنها تعطي شعورا “بالفوضى”.

بل أن الأمر يصل حد الهوس أحيانا للتأكد من أن الملفات تحمل أسماء متناسقة تماما، هذا الحرص الدقيق قد يبدو مفرطا ومبالغا به للآخرين، لكنه بالنسبة لي الطريقة الوحيدة لأشعر أن كل شيء في مكانه وأن ذهني مستعد للعمل بلا تشويش.

عندما يأتي ضيف إلى المكان الذي أقيم فيه، تبدأ مرحلة “الطقوس الإجبارية”، أول شيء يجب أن يفعله الضيف هو تغيير ملابسه، بعدها، يذهب للاستحمام وكأنه يستعد لدخول مختبر طبي، وليس مجرد غرفة معي. أما أغراضه، فبدورها تخضع للفحص والتطهير. الهاتف، المحفظة، وحتى حقيبة اليد، كلها يتم مسحها بمناديل مبللة.

وإذا قرر الضيف الخروج أثناء زيارته، فهناك زي خاص للخارج يجب ارتداؤه، لأنه بالطبع لا يمكن لملابس السكن النقية أن تتلوث. وعندما يعود، يعيد نفس السيناريو: ملابس جديدة، استحمام، مسح الأغراض. قد يبدو الأمر أشبه بالتعذيب، لكنه بالنسبة لي، الطريقة الوحيدة التي أستطيع من خلالها تقبل وجود أحدهم في عالمي الخاص دون أن أفقد السيطرة تماما.

الحقيقة المؤلمة هي أن هذه الطقوس لا يتفهمها سوى قلة قليلة، وتحديدا أمي وأخي الصغير. هم وحدهم من يوافقون على كل هذا برحابة صدر، وربما بنوع من الشفقة التي أراها في أعينهم حتى لو لم ينطقوا بها. هم يعرفونني جيدا، يفهمون أن هذه الطقوس ليست مجرد عادات غريبة، بل محاولة يائسة لأشعر بالأمان في عالم معقد.

أما الغرباء، فهم لا يطيقون صبرا، يحاولون مجاملتي في البداية، لكن سرعان ما تنهار محاولاتهم، ويهربون من أول مناسبة، ربما هو الجزء الأكثر إيلاما: أن يكون عالمك مليئا بالتفاصيل الصغيرة، لكنه فارغ من الأشخاص الذين يستطيعون البقاء فيه.

في فترة كورونا، وجدت نفسي وسط الأضواء فجأة، اتصالات ورسائل من الأصدقاء والمعارف، يشكرونني ويثنون علي وكأنني كنت أقرأ المستقبل، عاداتي في تعقيم كل شيء، وتنظيف أغراضي، وتجنب لمس الأشياء القادمة من الخارج، أصبحت فجأة توصية رسمية من منظمة الصحة العالمية. وكأن الزمن دار دورة كاملة ليمنحني لحظة من التكريم غير المتوقع.

أحيانا أهرب إلى الفنادق أو أماكن أخرى لا أحتاج فيها إلى الاهتمام بالتفاصيل التي تستهلكني. هناك، لا أضطر إلى تنظيف أو ترتيب كل شيء، ولا أشعر بعبء الصيانة أو القلق من الفوضى. لحظات أتنفس فيه بعض الحرية، وأتحرر من طقوسي المرهقة ولو مؤقتا.